يا قوم، التمسوا لأنفسكم دينًا، فإنكم والله ما أنتم على شيء! وعندما بلغ محمد - عليه السلام - سنَّ الأربعين، بدأ جبريل ينزل عليه بالقرآن الكريم | وخادمه الخاص أنس الذي كان آخر الصحابة موتًا، والذي مات سنة 84هـ ؛ أي: إنه عاش بعد الرسول أكثر من سبعين سنة، فهل غير أنس هذا رأيه في الرسول طوال هذه الفترة؟ أم أنه كان يبكي إذا ذكر اسم الرسول أمامه؟، ولـه فيه شهادات لم توجد إطلاقًا من خادم لمخدومه! فعلامَ إذًا كان يقطع - عليه الصلاة والسلام - رحلة الحياة الحافلة بالصور المعروفة من الجهاد المتواصل؟! ومع هذا التنجيم عبر هذا المدى الزمني المتطاول، تتجلى المعجزة أيضًا في تلك الوحدة التشريعية والتاريخية والفنية التي يمتاز بها القرآن الكريم، بحيث يبدو وكأنه نسَقٌ واحد يرتفع فوق تموُّجات الزمن، بل كأنَّ عهده بالوجود أمس كما قال أحد المستشرقين! والقرآن - بحد ذاته - هو الدليل الأكبر على صدق نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - والقرآن مع أنه يحمل دليل ألوهيَّته وربانيَّته معه، فإنه يحمل معه دليل نبوَّة الموحى إليه به |
---|---|
ولم يكن لدى الفرس أو الروم دينٌ صحيح شامل، عالمي قوي مؤثر، لقد كان الدين بالنسبة إليهما جزءًا من ملامح الشخصية الحضارية، وعنصرًا واحدًا من عناصر القومية، ولم يكن في ظلِّ انحدارهما وانحرافهما حضارة كاملة تحدِّد هي التعامل مع الأشياء، وتُضفي على القِيَم لونها الخاص | لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم! ذلك أن الرِّيبة كان في الإمكان أن تدخل صدور الناس، إذا ما رأوا النبي - عليه الصلاة والسلام - متعلِّمًا مطلعًا على الكتب القديمة، وتاريخ الأمم البائدة، وحضارات الدول المجاورة، كذلك يخشى من دخول هذه الريبة إذا ما ظهرت الدعوة الإسلامية بين أُمة لها شأن في الحضارة والمدنية، والفلسفة والتاريخ؛ كدولة الفرس، أو اليونان، أو الرومان، إذ رُبَّ مرتاب مُبطل، يزعم أن الدعوة حصاد سلسلة من التجارب الحضارية والأفكار الفلسفية التي تطوَّرت وانتهت إلى مثل هذه الحضارة الفذَّة، وهذا التشريع الكامل |
ما حجرٌ نظيف به لا يسمع ولا يُبصر، ولا يضر ولا ينفع! ويواصل ابن إسحاق تتبُّعه للمسيرة الفكرية لهؤلاء، وما وصلوا إليه في رحلة بحثهم عن الحقيقة: " فأما ورقة بن نوفل، فاستحكَم في النصرانية"، وكان من أمره في بداية الإسلام - مع رسول الله عليه الصلاة والسلام - ما يعتبره البعض دخولاً في الإسلام.
24كما تصوِّر لنا هذه القَصص مدى القلق والتيه النفسي والفكري، الذي كان يُهيمن على العقلاء في أرجاء الجزيرة؛ إن ابن هشام يحدثنا عن ابن إسحاق في ذكر عيد من أعياد قريش، وما كان من أمر بعض الحائرين، فيقول: "واجتمعت قريش يومًا في عيدٍ لهم عند صنمٍ من أصنامهم، كانوا يعظمونه، ويَخِرُّون له، ويعكفون عنده، ويديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، فخلَص منهم أربعة نفر نجيًّا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا، وليَكتُم بعضكم على بعض! وزوجات الإنسان هنَّ أقرب الناس إليه، وأكثرهنَّ معرفة به، وما وجد أحد كان موقرًا محبوبًا من زوجاته مثل محمد - عليه السلام - ولو كان ثمة ثغرة في دعوته، لأمكَن لزوجاته كشْفها؛ سواء على مستوى النظر، أم السلوك | ونبوَّته - عليه السلام - تَثبُت وتتألَّق من زاوية أخرى إذا ما استعرضنا تركيبة حياته - عليه السلام |
---|---|
وأُميته وظهوره بين قوم مغرقين في الأُمية، حِكمتان من حِكَم الله - سبحانه - حتى تكون معجزة النبوة والشريعة الإسلامية واضحة في الأذهان، لا لبْسَ بينها وبين الدعوات البشرية المختلفة | ومن أدلة صدقه - عليه السلام، وأدلة صدقه كثيرة - تاريخه كله، تاريخه بين أعدائه وأصحابه، فهو الصادق الأمين، وعلى الرغم من افتراءات أعدائه الكثيرة، فإن أحدًا منهم لم يَطعُن في صِدقه، بل كان الصدق علَمًا عليه |
ولا يَلبث محمد - الذي أشهَد الناس على أداء الأمانة - أن يذهب إلى ربِّه، دون أن يأخذ من هذه الدنيا لنفسه أيَّ حظٍّ، فكأنه إنما جاء للأمانة، وللأمانة وحدها، ذلك الصادق الأمين.
12